فئران السفينه
بقلم - د. محمد حبيب:
لا يختلف أحد على أن الفأر حيوان كريه، مظهرا ومخبرا..وهو يمتلك قدرة هائلة على التكيف وتحمل كل الظروف المناخية والجغرافية، وبالتالى التواجد فى البيئات المختلفة؛ القارية، والمعتدلة، والباردة، والمتجمدة..كما أنه يعيش فى أجواء عجيبة ومتباينة، من مواسير الصرف الصحى، والبيوت، ومخازن الغلال وكل أنواع الطعام، ومجازر اللحوم، والقطارات، والسفن..إلخ.
معاركنا مع الفئران لا تنتهى، وكل واحد منا له قصصه وحكاياته معها.. وقد روى لنا أحد الأصدقاء الذين عاشوا فى لندن ردحا من الزمن قصة طريفة..قال الصديق: أنتم تعلمون أن القصاب الإنجليزى يحب أن يرى نظيفا ومهندما، فهو يرتدى ثيابا بيضاء نقية وقفازات بيضاء ناصعة، حتى يعطى انطباعا بالثقة والاطمئنان لمشترى اللحم فى أنه ''أى اللحم'' قمة فى الجودة والنقاء والخلو من الجراثيم، وفى هذا دعاية بطبيعة الحال لهذا المحل أو ذاك..وقد استطاع أحد الصحفيين المهرة من التسلل خلسة، وفى غفلة من الحراس والعاملين، إلى أحد مجازر التجميد التى يتم تخزين اللحم بها..وذهل الصحفى النابه مما رأى..فماذا رأى ياترى؟ رأى المخزن يعج بكم هائل من الفئران التى استوطنت هذا المخزن، رغم درجة التجمد، وكيف أنها كانت تتحرك وتقفز من هنا وهناك فى طمأنينة وأمان داخل المخزن..وقد استطاع الصحفى النشيط تصوير كتل اللحم وهى منهوشة نهشا من قبل تلك الفئران..وفى صبيحة اليوم التالى تم نشر الخبر فى الصفحة الأولى من الصحيفة الشهيرة، حيث تصدر التقرير صورتان بجوار بعضهما؛ صورة القصاب الذى يبدو فى ملابسه وقفازيه الأنيقين، وصورة كتل اللحم التى يقوم الفئران بنهشها!.
وحكى صديق آخر أن السفن التى كانت تحمل إلينا خام الكاكاو من شرق إفريقيا عبر البحر الأحمر، وكيف كانت الفئران التى تمتلىء بها السفن تمارس هوايتها المفضلة فى التسلل إلى أجولة الكاكاو، حيث تقبع فيها طوال الرحلة، تقرض وتأكل وتفرز بقاياها، ولا أحد يعكر صفو حياتها..وبعد أن تفرغ السفن حمولتها من أجولة الكاكاو (والفئران)، تحمل هذه إلى طواحين لكى يتم طحنها وتحويلها إلى بودرة الكاكاو..وتحاول الفئران أن تقفز فى الهواء بعيدا عن الطواحين قبل أن تلقى مصيرها المحتوم، لكن هيهات هيهات..المهم أنه فى النهاية تقدم إلينا قطع الشوكولاته مغلفة بغلالات من ورق السوليفان الرقيق و''الشيك'' والتى تغرى الكبار قبل الصغار بالتهامها!.
ومن الملاحظ أن الفئران فى السفينة، إن لم تجد شيئا تأكله، تبدأ فى قرض قاعها، فتحدث فيها تلفيات وثغرات قاتلة، لا ينتبه إليها عادة قبطان أو عمال السفينة إلا بعد فوات الأوان..وقد تؤدى هذه الثغرات فى نهاية الأمر إلى غرق السفينة نفسها..غير أن الفئران حين تستشعرالخطر، تصعد سريعا إلى أعلى السفينة، فى محاولة للنجاة..لكن إلى أين؟! وهكذا فئران السفينة، هى من يتسبب فى إغراقها، وهى أول من يلوذ بالفرار.
هذا ما يفعله أهل الاستبداد والفساد فى سفينة الوطن..تماما كفئران السفينة..لكنهم فى هذه الحالة يستولون عليها تماما، يتحكمون فى مسيرتها، يعبثون بكل محتوياتها، يأتون على كل ما بها، حيث تتحول على أيديهم خرابا يبابا..والغريب أنهم، بدلا من الفرار يتشبثون بمواقعهم داخل السفينة لآخررمق، لعل وعسى..وهذا يجرنا إلى ما أثير فى الأيام القليلة الماضية حول قضية العفو العام (!)عن الرئيس السابق، وبغض النظر إن كان ذلك أثير كبالونة اختبار فى محاولة لجس النبض ومعرفة رد فعل الجماهير، إلا أنه يمثل حالة من الاستهبال أو الاستعباط التى دأب النظام السابق على ممارستها طيلة الثلاثين عاما الماضية..الآن أصبح الشعب أكثر وعيا ودراية فى التعامل مع رمز النظام الساقط، وما عاد ينطلى عليه الحيل والألاعيب التى كان يتبعها.
إن الشعب لا يستطيع أن ينسى الأغذية المسرطنة، والتى أدت إلى وفاة عشرات الألوف من المواطنين..ولا يستطيع أن يغفل أيضا المئات من المواطنين الذين تفحموا داخل قطار الصعيد، ولا أن يغض الطرف عن ألف وأربعمائة من المواطنين الذين غرقوا مع عبارة السلام فى البحر الأحمر..هذا فى الوقت الذى ذهب فيه رأس النظام الساقط إلى استاد القاهرة لكى يمزح مع الفريق القومى، وكأن شيئا لم يكن! الشعب المصرى لا يستطيع أن ينسى الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان فى عهد الرئيس السابق..فقد كان يودع عشرات الألوف من المواطنين المصريين فى السجون والمعتقلات، لمجرد أنهم كانوا يطالبون بحقهم فى حياة حرة كريمة، ولأنهم كانوا يقفون فى مواجهة الاستبداد والقمع والبطش والفساد الذى زكمت رائحته الأنوف، أملا فى أن تنهض بلادهم من كبوتها..وكيف كان يتم تعذيب الكثير من هؤلاء تعذيبا وحشيا، يصل فى بعض الأحيان إلى الموت، فى مقرات جهاز مباحث أمن الدولة.
ومراكز وأقسام الشرطة ومعسكرات فرق الأمن المركزى..الشعب المصرى لا يستطيع أن يغفل تلك المحاكمات العسكرية التى كانت تعقد للشرفاء المدنيين من أبناء هذا الوطن ويحرمون من المثول أمام قاضيهم الطبيعى، بسبب إصرارهم على ممارسة حقهم الدستورى والقانونى فى خوض الانتخابات النيابية العامة! بل رأى الشعب المصرى كيف كانت تشن الحرب على الأرزاق للمخالفين سياسيا لهذا النظام.
الشعب لا يستطيع أن ينسى ذلك النظام المضلل والمخادع والغاش الذى حرص على تزوير إرادته فى الانتخابات النيابية العامة طيلة عقود، وآخرذلك انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى وانتخابات مجلس الشعب فى عام 2010، والتى وصفها المراقبون والمحللون السياسيون بأنها كانت فعلا فاضحا فى الطريق العام، بل كانت عارا وسبة فى جبين مصر أمام العالم، حيث أساءت إلى كرامة مصر، الشعب والوطن..كما أن الشعب المصرى لا يستطيع أن يتجاهل ذلك السلب والنهب المنظم والممنهج لثروات الوطن الذى قام به مبارك وأفراد أسرته، وأعوانه، ورجاله.
الشعب المصرى لايمكن بحال أن يصرف النظرعما حدث أثناء ثورة 25 يناير، واستعمال أقصى درجات العنف مع المتاظرين السلميين، من سفك للدماء وإزهاق للأرواح لأكثرمن عشرة آلاف مواطن..كيف يعقل أن يقوم نظام باستعمال البلطجة مع مواطنيه العزل، وهو المطالب باحترام القانون والمحافظة على أرواح الناس والدفاع عنهم؟ كيف يعقل أن يتم سحب الأجهزة الأمنية من مواقعها حتى تترك البلاد للمجرمين والقتلة والسفلة كى يعيثوا فى الأرض فسادا، وكى تغرق البلاد فى فوضى عارمة؟.
لابد من محاكمة مبارك وأفراد أسرته ورجاله..ولن نطالب بمحاكمته أمام محاكم عسكرية أو استثنائية، كما كان يفعل معنا نحن المدنيين، رغم الفارق الضخم بين موقفنا وموقفه..نحن نثق فى قضائنا الشامخ، ونثق أن المحاكمة سوف تكون عادلة..المهم أن تكون سريعة وعلنية، وأن يكون البدء بالجرائم السياسية الكبرى..إن مبارك لم يكن رئيس دولة، لكنه كان رئيس عصابة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق